أعادت حادثة مقتل الجنود الفرنسيين الأسبوع الماضي في مالي، الحديث عن جدوى التدخّل العسكري الفرنسي في هذا البلد الإفريقي، فرغم مرور 7 سنوات على هذا التدخّل مازال الوضع على حاله فالعنف متواصل والضحايا في ازدياد، ما جعل العديد من المتابعين يؤكّدون أن فرنسا تتغذى من هذه الأزمة ولا تبحث لها عن حلّ، فمستقبلها رهينة تواصل الاضطرابات في المناطق التي يحمل باطنها ثروات هامة.
ربيع عام 2012، سقط شمال مالي الذي تعتبره فرنسا منطقة نفوذ حيوي، باعتبارها مستعمرة سابقة لها، في قبضة مجموعات مسلحة مرتبطة بتنظيم القاعدة (حركتي التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا) وأخرى منشقّة عنها (الملثمون بقيادة مختار بلمختار) وأخرى تابعة للطوارق (حركة أنصار الدين و الحركة الوطنية لتحرير أزواد).
سارعت فرنسا إلى بدء عملية عسكرية هناك، ولم تنتظر قرارًا من مجلس الأمن كانت تسعى إلى إصداره لكي تتدخل تحت غطاء إفريقي، أو على الأقل تساعد التدخل الإفريقي الذي كان يتم الإعداد له لكن عدم صدور قرار من مجلس الأمن أجله.
وشرعت فرنسا تدخلها بطلب الحكومة المالية مساعدتها في مواجهة المسلحين الإسلاميين، كما اتكأت على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2085 الصادر في 20 ديسمبر/ كانون أول 2012، الذي يسمح بإنشاء قوة دولية لدعم مالي في حربها لاستعادة الشمال، هذا فضلا عن مبررات أخرى من قبيل منع قيام كيان “إرهابي” في المنطقة يشكل تهديدا للمنطقة والعالم بأسره
الدافع الرئيسي لهذا التدخّل بعيدا عن مقولة حماية مالي من النموذج الصومالي هو المحافظة والإبقاء على مصالح باريس هناك، والسعي لاسترجاع نفوذها ومكانتها وهيمنتها السابقة على هذه المنطقة
دخلت فرنسا الحرب وبحراك عسكري يشمل القوات البرية والدعم الاستخباراتي واللوجستي والإسناد الجوي، بعد أن كانت تقول إنها ستكتفي بالدعم اللوجستي والاستخباراتي، ولن تنزل قوات برية للمشاركة في هذه العملية العسكرية.
لم تكتفي فرنسا بذلك، بل قرّرت المشاركة في عملية “برخان” لمكافحة الإرهاب في منطقة غرب إفريقيا بـ4500 مقاتل، وتزويدهم بمروحيات عسكرية وعربات مدرعة و طائرات نقل وطائرات محاربة وطائرات دون طيار.
سنة 2017، نجحت فرنسا في تشكيل قوة عسكرية متعددة الجنسيات (تشاد ومالي وموريتانيا وبوركينا فاسو والنيجر)، أوكلت لها مهمة العمل إلى جانب بعثتي فرنسا (برخان) والأمم المتحدة (مينوسما) في حربهما ضد الجماعات المسلحة في منطقة الساحل الإفريقي.
في اليوم الأول لدخول القوات الفرنسية صحراء مالي سقطت مروحيتان فرنسيتان، وقتل اثنان من الجنود الفرنسيين، الأمر الذي حدا بالفرنسيين إلى سحب سلاح المروحيات الفعال من المعركة بعد أن تبينت قدرة المسلحين على إسقاطها، والتركيز على الضربات الجوية عن بعد بواسطة طائرات “الجكوار” و”الميراج” و”رافال”.
تتالت الخسائر الفرنسية هناك، وكان آخرها سقوط 13 قتيلًا معظمهم من الضباط وضباط الصف، الأسبوع الماضي، من قوة “برخان”، إثر حادث تصادم بين مروحيتين أثناء عملية قتالية ضد متطرفين في شمال شرق مالي، في أكبر حصيلة تتكبدها فرنسا، منذ التفجير الذي استهدف مقر قيادة القوات الفرنسية في بيروت في عام 1983 وأوقع 58 قتيلًا.
وصل عدد القتلى الفرنسيين في مالي إلى 38 جنديا
بمقتل هؤلاء الجنود يصل عند قتلى الجيش الفرنسي، منذ انخراط باريس سنة 2013 في عملية “برخان” إلى 38 قتيلًا، ما جعل العديد من الفرنسيين الذين كانوا متحمسين لهذه العملية يشككون في جدوى الوجود الفرنسي في هذه الدولة الإفريقية.
هذا التشكيك يتضاعف، خاصة إذا علمنا أن الوضع الميداني على حاله فشمال مالي لم يسترجع بعد، فمناطق بكاملها لا تزال خارجة عن سيطرة القوات المالية والأجنبية التي تتعرض بشكل متواصل لهجمات دامية، رغم هذه القوات الفرنسية المنتشرة منذ سنوات عدّة في المنطقة.
سبع سنوات من بدء عملية سرفال وبعدها برخان، لم تكن كفيلة لتحقيق الأهداف التي وضعت لها، إذ لم تستعد سيادة مالي في الشمال ولم تحد من انتشار التهديد الإرهابي في المنطقة، ومع ذلك فرنسا مصرّة على العمل العسكري مستبعدة الحل السياسي.
هذا الأمر يؤكّد توظيف فرنسا آلية التدخلات في مناطق الأزمات والصراعات، بغض النظر عن التكاليف والنتائج المترتبة على ذلك، وذلك لاستمرار الدولة الفرنسية كقوة عظمى ذات مكانة عالمية، فالتدخل في مالي جاء لحماية مصالح باريس في هذا البلد الإفريقي الغني بالنفط والثروات المعدنية، ومحاولة تعزيز الوجود الفرنسي في منطقة تعتبر تقليديًا مركز نفوذ خاص بفعل سابقة الوجود الاستعماري.
ومن خلال متابعة تطورات التدخل الفرنسي في هذه المنطقة، يتبيّن لنا أن الدافع الرئيسي لهذا التدخّل بعيدًا عن مقولة حماية مالي من النموذج الصومالي هو المحافظة والإبقاء على مصالح باريس هناك، والسعي لاسترجاع نفوذها ومكانتها وهيمنتها السابقة على هذه المنطقة